كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك يحذر الحق سبحانه المؤمنين: إياكم من البطانة من غير المؤمنين، لأنهم لايقصرون أبدا ولا يتركون جهدا من الجهود إلا وهم يحاولون فيه أن يدخلوكم في مشقة. والمشقة إنما تنشأ من أن الكافر يحاول أن يجذب المؤمن إلى الانحراف والاضطراب النفسي وتشتت الملكات مستغلا القرابة والصداقة، مطالبا أن يرضيه المؤمن بما يخالف الدين، ولا يستطيع المؤمن التوفيق بين ما يطلبه الدين وما يطلبه الكافر؛ لذلك تنقسم ملكات المؤمن ويحس بالمشقة. والكافرون لا يتركون أي فرصة تأتي بالفساد للمؤمنين إلا انتهزوها واغتنموها.
وما دامت البغضاء قد بدت من أفواههم فكيف نتخذهم بطانة؟ أنك حين تصنع لنفسك جماعة من غير المؤمنين، فإنها تضم بعضا من المنافقين غير المنسجمين مع أنفسهم. والمنافق له لسان يظهر خلاف ما يبطن. وعندما يذهب المنافق إلى غير المؤمنين فإن لسان المنافق ينقل بالسخرية كلام المؤمن.
هكذا تظهر البغضاء من أفواه المنافقين المذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إنهم لا ينتمون إلى الإيمان ولا ينتمون إلى الكفر، والذي يصل المؤمنين من بغضاء هؤلاء قليل، لأن ما تخفي صدورهم أكبر. وحين تبدوا البغضاء من أفواههم، فإما أن يقولوها أمام منافقين، وإما أن يقولها بعضهم لبعض، فيتبادلوا الاستهزاء والسخرية بالمؤمن، والله أعلم بمن قيل فيه هذا الكلام، ولذلك فعندما يتحدث الكافرون بكلام فيما بينهم فالله يكشفهم ويفضحهم لنا نحن المؤمنين.
إن الله تعالى يكشف بطلاقة علمه كل الخبايا، وكان على الكافرين والمنافقين أن يعلموا أن هناك إلها يرقب عملية الإيمان في المؤمن حتى ينبهه إلى أدق الأشياء، لكنهم كأهل كفر ونفاق في غباء، لقد كان مجرد نزول قول الحق: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} كان ذلك فرصة أمامهم ليدفعوا عن أنفسهم لو كانت صدورهم خالية من الحقد. لكنهم عرفوا ان الله قد علم ما في صدورهم. إن الغيظ الذي في قلوب هؤلاء الجاحدين الحاقدين قد نضح على ألسنتهم، ولكن مَن الذي نقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ما في صدور الكافرين مما هو أكثر من ذلك؟
إنه الله- جلت قدرته- قد فضحهم بما أنزل من قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} إذن لم يعد لمن آمن بالله حجة؛ لأن الله أعطاه المناعات القوية لصيانة ذلك الإيمان، وأوضح الحق للمؤمنين أن أعداءهم لن يدخروا وسعا أبدا في إفساد انتمائهم لهذا الدين، فيجب أن ينتبه المؤمنون.
وإذا ما دققنا التأمل في تذييل الآية نجد أن الحق قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} إذن، فالآيات المنزلة من الله تعالى توضح ذلك، وقد قلنا من قبل: إن الآيات، إما أن تكون آيات قرآنية، وإما أن تكون آيات كونية، فالقرآن له آيات، والكون له آيات. ولنسمع قول الحق بالنسبة للقرآن: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 101].
وفي مجال الكون يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
وهكذا نعلم أن الآية هي الشيء العجيب اللافت الذي يجب أنه ننتبه إليه لنأخذ منه دستورا لحياتنا. وعلى ذلك، فالآيات القرآنية تعطي المنهج، والآيات الكونية تؤيد صدق الآيات المنهجية. ويجب أن تتفطنوا أيها المؤمنون إلى هذه الآيات. والذي يدل على أن المؤمنين قد عقلوا وتفطنوا، أن الآية الأولى بينت أنهم قد نهوا عن أن يتخذوا بطانة من دونهم- أي من غير المؤمنين- وها هي ذي الآية التالية تقول: {هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}.
وما زال الحديث والكلام عن البطانة، وهو يدل على أن البطانة لم تستطع أن تلوي المؤمنين عن الإيمان، بل إن المؤمنين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان حاولوا أن يغيروا من الكافرين. ولم يفلح الكافرون أن يغيروا من المؤمنين، وكذلك لم يفلح الكافرون أيضا أن يسيطروا على أنفسهم، ولم يكن أمام هؤلاء الكافرين إلا النفاق، لذلك قالوا: آمنا. إن الآية تدلنا على أن المؤمنون قد عقلوا آيات الحق. ولماذا- إذن- جاء الحق بقوله: {تحبونهم ولا يحبونكم}؟
لقد أحب المؤمنون الكافرين حين شرحوا لهم قضية الحق في منهج الإسلام، وأرادوا المؤمنون أن يجنبوا الكافرين متاعب الكفر في الدنيا والآخرة، وهذا هو الحب الحقيقي، فهل بَادَلَهُم الكافرون الحب؟ لا؛ لأن هؤلاء الكافرون أرادو أخذ المؤمنين إلى الكفر، وهذا دليل عدم المودة. ولم يستطع الكافرون تحقيق هذا المأرب، ولذلك قالوا: {آمنا} ومعنى قولهم: {آمنا} يدلنا على أن موقف المسلمين كان موقفا صُلبا قويا؛ لذلك لم يجد الكافرون بدًا من نفاقهم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} قالوا ذلك على الرغم من ظهور البغضاء في أفواههم، ولم يكن سلوكهم مطابقا لما يقولون. وهنا بدأ المسلمون في تحجيم وتقليل مودتهم للكافرين؛ ولذلك قال أهل الكفر: لو استمر الأمر هكذا فسوف يتركنا هؤلاء المسلمون.. وحتى يتجنبوا هذا الموقف ادعوا الإيمان في الظاهر، وينقلب موقفهم إذا خلوا لأنفسهم، ويصور الحق هذا الموقف في قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} فما هو العض؟
إن العضَّ لغويا، هو التقاء الفكين على شيء ليقضماه. وما الأنامل؟ إنها أطراف الأصابع، والأنامل فيها شيء من الدقة، وشيء من خفة الحركة المأخوذة من خلية النمل، ويسمون الأنامل أيضا البنان، وعملية عض الأنامل عندما نراها نجدها عملية انفعالية قسرية. أي أن الفكر لا يرتبها؛ فليس هناك من يرضي أن يظل مرتكبا لعملية عض أصابعه، فعض الأصبع يسبب الألم، لكن الامتلاء بالغيظ يدفع الإنسان إلى عض الأصابع كمسألة قسرية نتيجة اضطراب وخلل في الانفعال.
ومن أين يجيء الغيظ؟.
لقد جاء الغيظ إلى الكافرين لأنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا المؤمنين قيد شعرة عن منهج الله، بل حدث ما هو العكس، لقد حاول المؤمنون أن يجذبوا الكافرين إلى نور الإيمان، وكان الكافرون يريدون أن يصنعوا من أنفسهم بطانة يدخلون منها إلى المؤمنين لينشروا مفاسدهم؛ ولذلك وقعوا في الغيظ عندما لم يمكنهم المؤمنون من شيء من مرادهم.
إن الإنسان يقع أحيانا فريسة للغيظ حين لا يتمكن من إعلان غضبه على خصمه؛ ولهذا إذا أراد إنسان من أهل الإيمان أن يواجه حسد واحد من خصومه فعليه أن يزيد في فضله على هذا الإنسان، وهنا يزداد هذا الخصم غيظا ومرارة، أيضا نجد أن من تعاليم الإسلام أن الإنسان المؤمن لا يقابل السيئة التي يصنعها فيه آخر بسيئة، وذلك حتى لا يرتكب الذنب نفسه، ولكن يتَبع القول المأثور: إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
إنهم بإحسان المسلمين إليهم يزدادون خصومة، وغيظا وحقدا على الإسلام وكان المسلمون الأوائل يتصرفون بذلك الأسلوب لقد كانوا جبالا إيمانية راسخة.
فخصوم الإسلام يعصون الله بسوء معاملتهم للمسلمين، لكنْ المسلمون يردون على سوء المعاملة بحسن المعاملة، وساعة يرى خصوم الإسلام أن كيدهم لا يحقق هدفه فإنهم يقعون في بئر وحمأة الغيظ. وعندما يخلون الكافرون لأنفسهم فأول أعمالهم هو عض الأصابع من الغيظ، وهو كما أوضحت نتيجة الانفعال القسري التابع للغضب والعجز عن تحقيق المأرب؛ ذلك أن كل تأثير إدراكي في النفس البشرية إنما يطرق مجالا وجدانيا فيها.
والمجال الوجداني لابد أن يعبر عن نفسه بعملية نزوعية تظهر بالحركة؛ فالإنسان عندما يسبب لواحد يعرفه لونا من الغضب فهو ينفعل بسرعة ويثور بالكلمات، هذا دليل على طيبة الإنسان الغاضب. أمَّا الذي لا يظهر انفعاله فيجب الحذر منه؛ لأنه يخزن انفعالاته، ويسيطر عليها، فلا تعرف متى تظهر ولا على أية صورة تبدو؛ ولذلك يقول الأثر: اتقوا غيظ الحليم فعندما تتجمع انفعالات جديدة فوق انفعالات قديمة متراكمة في قلب الحليم فلا أحد يعرف متى يفيض به الكيل.
إذن فالإدراك ينشأ عنه وجدان، فينفعل الإنسان بالنزوع الحركي. والتشريع الإسلامي لا يريد من الإنسان أن يكون حجرا أصم لا ينفعل، لكنه يطلب من المسلم أن ينفعل انفعالا مهذبا؛ ولذلك يضع الحق للمؤمن منهجا، فيقول سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
إن القرآن يعترف بأن هناك من الأحداث ما يستدعي غيظ الإنسان، والذي لا يغضب على الإطلاق إنما يسلك طريقا لا يتوافق مع طبيعة البشر السوية، والله يريد من الإنسان أن يكون إنسانًا، له عواطفه وشعوره وانفعالاته، ولكن الله المربي الحق يهذب انفعالات هذا الإنسان، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، فحين مات ولده إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
إن النبي صلى الله عليه وسلم يمزج بين العاطفة والإيمان، فالعين تدمع، والقلب يحزن، والإنسأن لا يكون أصمَّ أمام الأحداث، إنما على الإنسان أن يكون منفعلا انفعالا مهذبا.
وعندما يعبّر القرآن عن الإنسان السويّ فهو لا يضع المؤمن في قالب حديدي بحيث لا يستطيع أن يتغير فيقول سبحانه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
إذن فيلس المؤمن مطبوعا على الذلة، ولا مطبوعا على العزة، لكنه ينفعل للمواقف المختلفة، فهذا موقف يتطلب ذلة وتواضعا للمؤمنين فيكون المؤمن ذليلا، وهناك موقف آخر يتطلب عزة على الكافرين المتكبرين فيكون المؤمن عزيزا، والحق سبحانه يقول عن المؤمنين: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29].
إن الرحمة ليست خلقا ثابتا، ولا الشدة خلقا ثابتا ولكنَّ المؤمنين ينفعلون للأحداث، فحين يكون المؤمن مع المؤمنين فهو رحيم، وحين يكون في مواجهة الكفار فهو قوي وشديد. والله سبحانه لا يريد المؤمن على قالب واحد متجمد، لذلك يقول الحق: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وهو سبحانه القائل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
إذن فالحق لم يمنع المؤمن من أن يعاقب أحدا على خطأ، وذلك لأنه خلق الخلق وعليم بهم، ولا يمكن أن يصادم طباعهم، وذلك حتى لا يتهدد المؤمن في إيمانه فيما بعد، فالمؤمن لو ترك حقوقه فإن الكفار سيصولون ويجولون في حقوق المسلمين؛ ولهذا فالمؤمن يتدرب على توقيع العقاب حتى على المؤمن المخطئ، وذلك ليعرف المؤمن كيف يعاقب أي مجترئ على حق من حقوق الله. والمؤمن أيضا مطالب بأن يرتقي بعقابه، فهو إما أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإما أن يرتقي أكثر، ويستمع لقول الحق: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
لقد وضع الحق منهج الارتقاء بعد أن أعطى المؤمن الحق في توقيع العقاب قصاصا، وهكذا لم يقسر الله طبع الإنسان ولو أراد سبحانه ذلك لما خلق هذا الطبع أنه سبحانه يوضح لنا أن هناك انفعالا بالغيظ، وأن المؤمن عليه أن يحاول كظم الغيظ أي لا يعبر عن الغيظ نزوعيا، فإن أخرج المؤمن هذا الأمر من قلبه فمعناه أنه قد برئ وشُفِيَ منه وارتقى.
إذن فكظم الغيظ هو ألا يعبر المؤمن عن الغيظ نزوعيا، فإن سبّك أحدٌ فأنت لا تسبّه، وهذا الكظم يعني كتمان الانفعال في القلب، فإذا ارتقى المؤمن أكثر وتجاهل حتى الانفعال بذلك، فإنه يُخرج الغيظ من قلبه، وهو بذلك يرتقي ارتقاء أعلى، ويصفه الحق بأنه دخول إلى مرتبة الإحسان، فهو القائل: {وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهكذا يحسن المؤمن إلى المسبب للغيظ بكلمة طيبة.
فماذا يكون موقف الذي تسبب في غيظك أيها المؤمن وأنت قد كظمت الغيظ في المرحلة الأولى وعفوت في المرحلة الثانية وإن أخرجت الانفعال من قلبك، وصلت إلى المرحلة الثالثة وهي التي تمثل قمة الإيمان إنها الإحسان..
{وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} لابد أن يراجع المسبب للغيظ نفسه ويندم على ما فعل.
إن الإسلام لم يتجاهل المشاعر الإنسانية عندما طالب المؤمنين أن يحسنوا لمن أساء إليهم، فالذي يمعن النظر ويدقق الفهم يعرف أن الإسلام قد أعطى المؤمن الحق في الطبع البشرى حين قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ولكنه ارتقى بالمؤمن.
وعندما ننظر إلى هذا الأمر كقضية اقتصادية وتحسبها بمنه وله فسنجد أنّ المؤمن قد كسب.. ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- ساعة يجد الأب ابنا من أبنائه قام بظلم أخ له فإن قلب الأب يكون مع المظلوم، فهب أن إنسانا أساء لعبد من عباد الله فإن الله كربّ مربٍّ يغار له ونحن نعرف أن واحد قال لعارف بالله:
أتحسن لمن أساء إليك؟ فقال العارف بالله: أفلا أحسن لمن جعل الله في جانبي؟
ولنعد الآن إلى غيظ الكافرين من المؤمنين، إن غيظ الكافر ناتج من أن خصمه المؤمن يحب له الإيمان وليس في قلبه ضغينة بينما الكافر يغلي من الحقد، وبسبب هذا الأمر يكاد يفقد صوابه؛ لذلك يقول الحق: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}.
و{خَلَوْا} المقصود بها: أن الكافرين إذا ما أصبحوا في مجتمع كفرى وليس معهم مسلم أعلنوا الغيظ من المؤمنين، ولقد فعلوا هذا الأمر- عض الأنامل من الغيظ- في غيبة الإيمان والمؤمنين بالله، لو كان عند هؤلاء الكافرين ذرة من تعقل لفكروا كيف فضحهم القرآن، وهم الذين ارتكبوا هذا الفعل بعيدا عن المؤمنين؟
ألم يكن لتفكيرهم أن يصل إلى أن هناك ربًّا للمؤمنين يقول الخافيَ من الأمور لرسوله، ويبلغها الرسول للمؤمنين.
لكنهم مع ذلك لم يفهموا هذا الفضح لهم {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وهنا ينبغي أنْ نفهم أنَّ هناك أمرًا قد يغيظ، ولكن الإنسان قد يجبن أن ينفث غيظه، فإذا غاظك أحد فقد تذهب إليه وتنفعل عليه، أو قد تنفعل على نفسك وذلك هو ما يسمى بتحويل النزوع. فالغاضب يمتلئ بطاقة غضبية، ومن يغضب عليه قد يكون قويا وصاحب نفوذ، فيخاف أن ينفعل عليه، فينفث الغاضب طاقة غضبه على نفسه بأن يعض على أنامله، وما دامت المسألة هكذا، فقد قال الحق: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119].
ومعنى ذلك أن إغاظة المؤمنين لكم أيها الكافرون ستستمر إلى أن تموتوا من الغيظ؛ لذلك فلا طائل من محاولتكم جذب المؤمنين إلى الكفر: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}.
ونحن قد عرفنا أنه ساعة يؤمر الإنسان بشيء ليس في اختياره- لأن الموت ليس في اختيارهم- وأن يختار بينه وبين شيء في اختياره كالغيظ، فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر إليه ليظل أسير الأمر الذي يقدر عليه وهو الغيظ حتى يدركه الموت.
وعندما يقول الحق: {مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} فهذا يعني أن الكافرين لن يستطيعوا الموت، ولكن سيظلون في حالة الغيظ إلى أن يموتوا؛ لأنهم لايعرفون متى يموتون، وهكذا يظلون على حالهم من الغيظ من المؤمنين وما دام الكافرون في حالة غيظ من المؤمنين فهذا دليل على أن المؤمنين يطبقون منهجهم بأسلوب صحيح.
وفي هذه الآية بشارة طيبة للمؤمنين ونذارة مؤلمة للكافرين {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} إن الحق يعلمنا أنه عليم بذات الصدور، أي بالأمور التي تطرأ على الفكر، ولم تخرج بعد إلى مجال القول. وهو سبحانه القائل: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
وما دام هو الحق العليم بما تخفي الصدور فهو قادر ليس فقط على الجزاء بما يفعلونه من عمل نزوعي ولكنه قادر على أن يجازيهم أيضا بأن يفضح الأعمال غير النزوعية الكامنة في صدروهم، وبعد ذلك يقول سبحانه: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}. اهـ.